عودة "دفتر الوفاة" على شكل كرتون!!

خالد بن سعد الشنفري

"بعد خمسة عقود من الزمن، وفي عصرنا الحالي الحديث، ومنذ انطلاقة نهضتنا المباركة، ترك المجتمع في محافظة ظفار عادة دفتر مناسبات الوفاة، والذي كان يُتبع فيه نفس نمط دفتر مناسبات الزواج."

غير مجد في ملتي واعتقادي              نوح باك أو ترنم شاد

فشبيه صوت النعي بصوت البشير..    إذا قيس في كل ناد {المعري}

"الذي لا يزال عادةً حميدةً وعرفًا متبعًا يحافظ عليه هذا المجتمع الأصيل (مجتمع الهبات) إلى اليوم، ويُمسِكون عليه بالنواجذ والأقدام لما فيه من صلاح وسداد."

بدأ يظهر مؤخرًا شبيهٌ لفكرة هذه العادة المتروكة، والمسمّاة بدفتر أو معونة الوفاة، ولكن بشكلٍ آخر مختلف، ولغرض نبيل آخر مختلف أيضًا. فلم يعد الغرض منها إعانة صاحب حالة الوفاة لمقابلة تكاليف الذبح والولائم التي كانت تُقام في أيام العزاء، عادةً لمدة ثلاثة أيام بعد يوم الدفن. وكان لها في ذلك الزمن مبرّراتها الحقيقية، المتمثّلة في عدم وجود وسائل مواصلات غير الدواب، وأن المعزّين يفدون إلى صاحب العزاء من أماكن بعيدة لتعزيته، ولا يوجد نظام المطاعم حينها، حيث كانت الناس في ذلك الوقت تستضيف بعيد الديار والغريب من المساجد التي يأتون إليها لأداء فرائض الصلاة الخمس، وبالتالي يستضيف جيران المسجد أي غريب إلى بيوتهم (غريبًا أو بعيدًا) ولو لم يعرفوه. فوجب بالتالي على صاحب العزاء استضافة معزّيه انطلاقًا من العادة العربية الأصيلة في الكرم، فيُطعم كل الوافدين إليه للتعزية خلال أيام العزاء الثلاثة، وما كان يتبعها من ولائم إضافية، وما كان يُسمى منها (سراج القبر) أو (ليلة الأربعين) قديمًا بعد أربعين يومًا من الوفاة. ويتكلف بذلك الكثير من المال، فابتدع هذا المجتمع الأصيل عادة دفتر الوفاة لإعانة من لديه حالة وفاة على ذلك. وقد ذهبت كل هذه الأمور والأسباب جميعها إلى غير رجعة، ولم يعد هناك داعٍ بالتالي لمثل هذه العادة التي كانت محمودة في حينها، ولا لهذا الدفتر، والحمد لله.

بدأ يظهر في الآونة الأخيرة وجود كرتون على مدخل خيمة العزاء، يضع فيه من شاء ما تيسر من مبلغ. وكانت حالة الوفاة التي ظهر فيها هذا الكرتون ابتداءً، هي وفاة شخصٍ مسرّح من العمل ويُعيل أطفالًا قُصّرًا، وعليه التزامات لم يستطع الإيفاء بها قبل وفاته نظرًا لظروفه، وتُوفي على هذه الحالة. في الحقيقة، لا يُعرف من هو هذا الشهم الذي ابتدَع هذا المسلك، وأحضر كرتونًا إلى خيمة العزاء حينها ووضع فيه مبلغًا من المال، وتبعه آخرون. ولكن لأن معظم المعزّين يعلمون حالة المتوفى، بادروا بالمساهمة، وحتى من لم يكن لديه في جيبه مبلغٌ من المال حينها، ذهب إلى أقرب صراف آلي ليسحب.

مسلك جميل بالفعل، تكرر بعد ذلك في عدة حالات وفاة تشابه أوضاعها مثل هذه الحالة. لا شك أن مثل هذه الحالات تستحق فعلًا العون والمساعدة، وعودة دفتر الوفاة على شكل كرتون مع إدخال تعديلات عليه، مثل استبدال الكرتون بصندوق في مكان بارز ومحدد في مقر خيمة العزاء، ويمكن تطبيقه أيضًا اليوم في مساجد العزاء، مع الاتجاه حاليًا لاتخاذها للعزاء. وطبعًا أن يتم ذلك بموافقة أقارب المتوفى. ونحسب أن فيها منتهى النخوة والجود، والأجر والثواب الكبير بإذن الله.

من الطرائف التي سمعتها في بدايات هذا المسلك الجديد أن أحد الأشخاص، وهو خارج من بوابة خيمة العزاء، رمى مخلفات منديل (كلينكس) في ذلك الكرتون الموضوع هناك، ظنًّا منه أنه مخصّص لرمي المخلفات، لكنه فوجئ بأن فيه أنواط ريالات، فسحب مناديله بسرعة ووضع مبلغًا في الصندوق. ما أحوجنا لمثل هذا المسلك الجميل في هذا الوقت العصيب، للتعاون وتشتيت المخاطر بيننا.

ديننا الإسلامي فيه شيوع في بعض الأمور، وضواغي صيد الساردين (العولمة) قديمًا وحتى اليوم فيها شيوع، ومشاديد زراعة الدُّجر (1) برِّيّة من رذاذ الخريف أيضًا فيها شيوع، وأمور أخرى كثيرة. فالشيوع ليس حكرًا على أحد كما يظن البعض.

 

1- المشديدة أو المشاديد كانت عبارة عن حيز من الأرض المستوية في الجبال يشترك أهل منطقة معينة في استصلاحها وزراعتها بالدجر (نوع من الفاصوليا) ويقتسمون جميعا المنتج بالتساوي.

الأكثر قراءة